عشر أشجارٍ في الظلام | شعر

 

أفتح لك قبضتي

فيتشكّل حدوثك

‏أضمّها إذ أشاء؛

ملاذًا لك فيها.

‏تتحوّطني بوجودك

‏مثل غشاءٍ أو شعاع

مثل الجلد في جسدي

‏ظهرك قشرتي الأرضيّة

وعظامك دعائم الحياة.

لديّ وردةٌ في الفناء

قرمزيّةٌ وعطرة

تُغْوي بلونها الجميع

الريح والناس والحشرات

يحاولون أخذها إذ تتفتّح

إذ تفوح رائحتها

إذ تلمع في الشمس

مثل جوهرةٍ عتيقة

تلك دماؤك في رأسي

تتدفّق موحيةً بمشقّةِ

أن يكونَ

لونها

أحمر

 

*

 

أحمل رأسًا صافيًا في غيابك

ولا أعلم أيّهما يصنعه

الحبّ أم الألم

الخفّة الّتي يبعث عليها الامتلاء

أم تلك الّتي ينفخها الفراغ.

عشت محفوفةً بالآخرين كخطرٍ

أتذكّر هذا وأعمّمه جزافًا

على كلّ ما كان قبلك

أنا الّتي أعيش في رأسك

مثلما أفعل على الأرض

أكلّم نفسي طوال الوقت

قبل أن أصطدم بك

منتشرًا

في الفراغ الّذي لا يحدّ

ومُحْدِثًا

خللًا بنيويًّا هناك

 

*

 

في مطبخي زاويةٌ خاصّةٌ بالنكهات المصنّعة، أستخدمها لأركّز أيّ مذاقٍ ناقصٍ في الطعام، جرّبت مرّةً لعبةً مثيرة، وضعت على عنقي بضع قطراتٍ من الفانيلا وخرجت، كان الناس يمرّون من حولي ويلتفتون إليّ بوجوهٍ يملؤها التساؤل والحيرة، كنت أرى ذلك في عيونهم دون أن أحدق بها، دون أن أحدّق بأيّ شيءٍ على الإطلاق.

مرّةً أضع قطرات مركّز الفراولة، أو الليمون، زهر الخشخاش أو اللوز، وهكذا...

عندما أردت لاحقًا أن أعود لرائحتي، خرجت دون إضافات، مشيت بين الناس مثل شبحٍ، كم بدا ذلك موحشًا وإن كان حرًّا، لا التفات ولا اشتهاء.

كيف لي الآن أن أعود امرأةً

بعد أن قطعت الأميال

ألمّ اللعاب والنظرات

كزهرة ليمونٍ

أو كقرن فانيلا؟

 

*

 

من الشبق أو السماء

من حيث يجيء الناس إلى الحياة

أعود إليك

كما لو كنت حقيقتي

مثلما يفعل الماء

مثلما ينزلق عن الأسطح

أو يتجمّع في قطرات

آخذًا في رجوعه كلّ الدروب

عائدًا بالظنون برّاقةً

إلى البحار

 

*

 

أقسمتْ جارتي ألّا تغادر بيتها

أقسمتْ بكلّ عزيز،

فَعَلَتْ ذلك ونحن نطمر الخنافس، لتزهر

ونقطف الحمضيّات عن أشجارها المصطفاة

مَنْ يأخذ زيت البرتقال عن يدي

مَنْ يغنّي للسروة، تتمادى في رأسي

مَنْ يسدّ ثغرة السقف، تناوبتْ عليها الحساسين

أو يحاصر ممالك العفن بالصور والبراويز

اختبرتُ هذه الفتنة وأَلِفْتُها

أنا الّتي أطلّ كلّ يومٍ من نافذة غرفتي

على منزلٍ مهجور

وأرى الغياب خلّابًا

بشكله التجريبيّ

 

*

 

أنا الفراغ الضروريّ

لجعل الأشياء تبدو فاتنةً لا مكدّسةً

بين شجرتين، وأُسَمّى طريقًا

بين جدارين وأُسَمّى غرفةً

بين جسدين وأُسَمّى شوقًا.

أنا صوت الصمت

إذ يُطْلَقُ في البراري

فلا شيءَ غير الشسوع

يرتدّ راجعًا من مداه.

أنا العمر يمضي باتّجاهين متعاكسين

في الوقت ذاته

أعود إلى الوراء

بينما أوهمك

أنّني أتقدّم

 

*

 

ركضنا في الشوارع وهي تنهار

مشينا في الأزقّة وهي تضيق

قبضنا على الجمر وهو يبرد

عرفتني المغامرة

صاحبةً لها

في كلّ خطوةٍ

والتفاتةٍ

أعيش داخل غفوةٍ طويلةٍ

بلا حسرةٍ وبلا تجربة

أقفز من فوق الأسوار العالية، إذ أيأس

ثمّ أفتح عينيّ على مصرعيهما

فلا أتأذّى

 

*

 

يتفتّح جلدي عن نتوءاتٍ

عن براعمَ

وجذور.

كائناتٌ أُعْدِمَتْ

تعود لحيواتها في دمي

أسمع صوت رجوعها

صوت نواياها، تُضْمِرُ الخروج

من الكتف الّتي صارت ترابًا

من الشفاه الّتي نُثِرَتْ كذلك.

أريد جسدي الّذي أعرفه

قبل أن تداهمني الكلمات

قبل أن يصير وقعها حدثًا

كلانا يعرفها

دون أن تُقال مرّةً

إنّها تلمع أبدًا في حنجرتك

مثل صرصارٍ أو ألم

 

*

 

مثل الوقت

أو العمر

تتراكم في أيّامي

جاعلًا لنفسك فيها ذكريات

لا أسقف تمنعني عنك

ولا جدرانَ

تعيد بنائي كلّ ليلةٍ

وفي الصباح أنهدم

أنا الصحراء أصير جبالًا ووديان

وظلّ أصابعك على رمالي

عشرة أشجارٍ في الظلام.

رأسي عالقٌ في العراء

أسوق السماء إلى سقف غرفتي

كلّ ليلةٍ

لأنام

غدوت نديمة الثعالب

إذ تبدو وحدها عديدةً داخل النظرة والفراء

تملك أصواتًا شتّى لمناداتي

ويجذبني مثلها

صوت الصراخ

 

*

 

مثل أيّ ليلةٍ مقمرة

أحمل قصص اللمعان كلّها

الشرور الّتي أضاءت الأعين بالغضب

والعداء الّذي جعل المُدْيَة كذلك

البحار الّتي غادرت الشواطئ إلى الأجساد

‏والرمال الّتي تحت الضغط تصلّبت

‏والشوارع إذ تشقّها الأقدام والنظرات

‏ مأوى لعشرات اللآلئ،

‏تتدافع على ظهر عقربٍ

يسمّونهم صغارها

وتريدهم امرأةً لها

أقراطًا

وقلائد

 

*

 

أردت أن أشهد النهايات كلّها

الستائر وهي تُسْدَل

الموسيقى وهي تُرْفَع

الأبطال وهم ينحنون

أردت أن أصفّق للقفلة المدهشة

أن أجثو على ركبتيّ للقصّة الحزينة

أن أتحوّل إلى امرأةٍ من دموعٍ في الحالتين.

علمت بالصدفة الّتي تسوق لك ما يهمّك

أنّ القرن الإفريقيّ آخذًا بالجفاف

وباطن الأرض بالبرودة

علمت كذلك

أنّ الجبال الجليديّة في الأقطاب تنساب كأنهار

والغابات إذ تحترق تصير ثقوبًا في السماء

والعيون

تلك الّتي جعلت من الكون مسرحًا

انتهت في رأسٍ مضطربٍ

شاخصٍ كتمثال

وسط حديقةٍ مطلّةٍ

على مارّةٍ يخرجون من كلّ مكانٍ

‏يسقطون تباعًا

‏فوق منتصف الجبين

مثل نقاطٍ ترشح بانتظام

من صنبورٍ تالف

 

*

 

ركضنا في الشوارع وهي تنهار

مشينا في الأزقّة وهي تضيق

قبضنا على الجمر وهو يبرد

عرفتني المغامرة

صاحبةً لها

في كلّ خطوةٍ

والتفاتةٍ

أعيش داخل غفوةٍ طويلةٍ

بلا حسرةٍ وبلا تجربة

أقفز من فوق الأسوار العالية، إذ أيأس

ثمّ أفتح عينيّ على مصرعيهما

فلا أتأذّى

 


 

آمنة أبو صفط

 

 

 

شاعرة من نابلس. درست بكالوريوس علم النفسـ تخصّص الإرشاد النفسيّ، وماجستير علم الاجتماع.